السبت، 3 أكتوبر 2009















































عُمَر، نقطةُ النور في عُمْري

فاطمة ناعوت
كان طفلا مُدهشًا. سابقًا عمرَه القليلَ بشهور طويلة. شهادتي فيه متحررةٌ من نظرة الأم التقليدية التي ترى في عيوب ابنها مزايا، وفي أزماتِه إشراقات. السبب في هذا أن كلّ الأطفال المتوحدين، مثل عمر، هم بالفعل كائناتٌ مدهشة فوق العادة. لذلك يحكي لنا التاريخُ عن عباقرة في شتى الأزمان والأمكنة كانوا متوحدين في طفولتهم. مثل آينشتين وبيل جيتس وموتسارت وسواهم. عمر طفلي الثاني بعد مازن الذي يكبره بعامين. كان مختلفًا منذ يومه الأول. انتبه مبكرا للمحيطين به، وظهرت ابتسامتُه الأولى مبكرا، وكلمتُه الأولى مبكرا، وتفاعلُه البصريّ العضليّ مبكرا. كان في شهره الثالث حينما كنتُ أقيس لأخيه درجة الحرارة بترمومتر، في علبة بلاستيكية قطاعُها مثلث. كنّا حينما نحتاج أن نغلق العلبة لابد أن نضبط رؤوس المثلث بالغطاء، على رؤوس المثلث بعنق العلبة النحيلة، حتى يدخل عنقُ العلبة في الغطاء. وفوجئت بعمر، وهو بعد في شهوره الأولى، يمسك العلبة بيد والغطاء بيد ويدخلهما فورا! اندهشتُ كثيرا! وتصورت أنها صدفة. فأخذتهما منه ولخبطت وضعهما وناولته من جديد الغطاء والعلبة فركّبهما في لحظة. حتى أنني كنت أدعو أصدقائي ليشاهدوا هذه المعجزة الصغيرة. لم يَحْبُ عمر بل وقف ومشى فورا، قبل أخيه الذي يكبره بعامين. وتعلم وحده صعود السلم وقيادة الدراجة والتحكم في الكمبيوتر، دائما قبل أقرانه في العمر. لذلك كانت صدمتي بالغة حينما بدأ كل هذا ينسحب فجأة وفي لحظة. بدأ الانسحابُ الاجتماعي بأن كان يهرب إلى تحت مكتبي وأنا أكتب. يدخل في فراغ أسفل المكتب ويرفض الخروج! ثم بدأت كلماتُه تقلُّ يوما بعد يوم حتى كادت أن تختفي. وشرع تواصله مع "الآخر" في الخفوت. فعرفت أنه التوحد. خابت رحلاتي مع الأطباء على مدى سنواتٍ طوال. فقررت أن أقرأ في التوحد لأنجح فيما أخفق فيه الطب. سبع سنواتٍ كاملات لم أقرأ حرفا سوى في كتب التوحد وأحدث الأبحاث الغربية التي توصلوا إليها. بكيتُ وانهرتُ وحاولت الانتحار كثيرا. ثم انتبهت فجأة أن عمر، بحاله تلك، كائنٌ بديع فوق العادة، رغم التوحد، وربما بسبب التوحد. فنان يرسم ويبدع لوحات لم أر مثيلا لها. لا شك أنه ورث تلك الموهبة عن أبيه المهندس المعماري الموهوب نبيل شحاته. حتى أنني كنتُ أطالع جرائد الصبح ذات يوم لأجد صورته في جريدة روزا اليوسف وقد فازت لوحته بالمركز الأول على مستوى الجمهورية! عمر، نقطةُ النور البهية في حياتي، أحبه وأفخر به وأمتنُّ للسماء أن وهبتني إياه.في عمودي الأسبوعي بجريدة "المصري اليوم" كتبت مرةً عن عمر. طبعا لم أشر بوضوح إلى أنه ابني، لأنني لا أحب أن أحوّل مقالاتي بالصحف إلى سرد شخصيّ. كتبتها على نحو أدبيّ كرسالة حب مني إلى عمر، وإلى كل أم لديها عمر. أحبُّ هنا، في "شموع مصرية" أن أنقل لكم ذلك المقال، رسالةَ حبٍّ إلى كل مَن منحته السماءُ مكرمةً مثل هذه. أو سواها.الجميلُ الذي أخفقَ أن يكونَ عصفورا سأسرقُ فكرةَ جاك بريفير، الشاعرِ الفرنسي. يعلُّمنا بريفير في قصيدة جميلة كيف نرسمُ عصفورا: أولا نرسمُ قفصًا ونترك بابه مفتوحا. ثم نرسم داخل القفص شيئا يحبّه العصفور. شيئا حلوا وبسيطا ونافعا للعصفور. ونعلّق اللوحةَ على شجرة. ثم نختبئ خلف الشجرة صامتين دون حراك. ننتظر. يوما، أسبوعا، أسابيعَ، سنواتٍ. سيجيء العصفورُ يوما ما. حتما سيجيء. وحالما يدخل القفصَ نخرجُ من مخبئنا ونرسم بهدوء بابَ القفص، قضيبا فقضيبا. محاذرين أن نمسَّ الطائرَ بريشتنا. نغلقُ الباب. نرسمُ شجرةً. ونتخيّر أجملَ أغصانها ليتدلى منها القفص. نرسمُ أيضا أوراقا خضراءَ وأشعةَ شمسٍ كي يفرحَ العصفور. إن لم يصدحِ العصفورُ فتلك علامةٌ على إخفاق اللوحة. وإن غرّد وزقزقَ فاللوحةُ ناجحة. وقتها فقط نقدرُ أن ننزعَ ريشةً من جناح العصفور، ونوقّع باسمنا في ركن اللوحة السفليّ. ولأنني لست جاك بريفير فلن أرسمَ عصفورا. العصفورُ صعبٌ جدا! لأن ريشَه ملوّن. ولأنه حرٌّ. ولأنه يطير. لا أعرف أن أرسمَ شيئا يطير. ريشةُ الله وحدها تقدر. أو خيال بريفير. أقدرُ أن أرسمَ بالأبيض والأسود شيئا يمشي على الأرض. شيئا جميلا وشاحبا كان يحلمُ أن يكون عصفورا وأخفق. لم يقدر أن يطيرَ ويزقزق كعصفور. ولم يقدرْ أن يسعى ويحكي كإنسان. وقف على الخط المتأرجح بين الطيران وبين السعي. بين الزقزقة وبين الكلام. سأرسمُ طفلا نحيلا أسمرَ صامتا. وأسميه عُمَر. جميلٌ لكن لا يتكلم. شعره أسودُ فاحمٌ. وفي عينيه السوداوين العميقتين تمرّدٌ ورفضٌ للعالم. لم يكبر بما يكفي ليدركَ أن العالمَ بالفعل يستحقُّ أن يُتجنَّب. لكن حدسَ الفنان داخله أخبره. هل أخبرتكم أنه فنان؟ سأرسمه وهو ينتحي مكانا قصيًّا من غرفته، جوار النافذة التي أمامها شجرةٌ وفوقها بلبلٌ يغرّد ثلاثَ مرات في اليوم. ينتزعُ من مكتب أمّه رزمةَ أوراقٍ بيضاءَ ويفتح علبة الألوان. في لوحاته رسالةٌ تتكرر. تنينٌ ضخم يُطلق من لسانه لهبا. وفي الركن السفلي إنسانٌ خائف جدا ووحيد. يرتعد. إنسان قزمٌ. شعاعُ هلعٍ يمتد من عينيه حتى لسان التنين. لن أقدر أن أرسم لوحتَه في لوحتي. فأنا لستُ فنانة مثل عمر. الجميلُ المتوّحدُ المكتفي بريشته عن العالم. لكن سأرسمُ في أقصى اللوحة سيدةً عجوزًا حزنٌ في عينيها. أرسمها وهي تنحني أمام طبيبة الأطفال تقبّل يدها وتقول: هل تشفين عمر؟ فتجيب الطبيبة: عمر مش مريض، ده متوّحد. وكمان فنان. هي على الأرجح جَدة الطفل. أما أمُّه فلن تظهر في لوحتي. لأنها الآن تتوارى في غرفتها. فوق سريرها كتبٌ كثيرة عن أمراض الطفولة والتوحّد وتأخر البناء اللغوي. ومواقف النفري. ونبي جبران. وغريب كامي. وكثيرٌ من المناديل الورقية. هي تعرف أنها لم تتسبب في صمت عمر الأبدي. وتعلمُ أنها أنفقت سبعَ سنوات تقرأ وتقرأ، كي تنجح فيما أخفق الأطباءُ فيه. لم تقرأ صحيفةً ولم تطالع كتابا إلا إذا حمل شيئا عن الأوتيزم. مرّت حروبٌ واشتعل العالم لكنها لم تفتح تليفزيون ولا مذياعًا ولا صحيفة لتعرف لماذا تتحارب الشعوب؟ وكيف يقتلون الأطفال؟ فكل حرف يدخل عينيها في غير التوحد خيانةٌ لعمر. وحين يغدو عمر صبيًّا وسيما وصامتا، تكون قد سلّمت بيأسها وكفّت عن البكاء. فتحوله إلى أيقونة جَمال وشِعر وعذوبة. تتأمل رفضَه العالمَ وتحاول أن تقلّده. تقلد صمتَه. وتشرنقه. تقلد رفضَه الزحامَ والتزاحم. لأن في رفضه نبالةً. وفي صمتِه صخبُ مجرّةٍ بأسرِها!
نُشر المقال على جزءين
المقدمة في مجلة "شموع مصرية" والمقال في عمودي بالمصري اليوم